مقدمــة الكتاب

جرى العرف على أن يتقاضى الناس فيما بينهم، أو فيما بينهم وبين النظام على أمور مادية، أو على قضايا القذف والتشهير وما شابه، كما يحدث مع كتاب الصحف، لكن القضية التى يعرضها هذا الكتاب تكاد تنفرد، فلأول مرة يتقاضى أحد لمنع استمرار تزييف التاريخ!!.
النظام فيما مضى قد زيف التاريخ -عندما تعمد التعتيم على دور بطل الثورة ومنقذها القائمقام (يوسف منصور صديق)، وإلصاق الأباطيل بالرجل، بما نشر عن أحداث قيام الثورة، فتارة ينسب إليه زورا قيامة مبكرا عن موعد قيام الثورة بساعة، وتارة ثانية ينسب دوره ليلة 23 يوليو إلى غيره، وتارة ثالثة يهمش دوره فى اقتحام إدارة الجيش مدعيا اشتراك وحدة من الفرسان فى التمهيد لهذا الاقتحام باستيلائها على بوابة إدارة الجيش والقبض على الحراس ومصادرة سلاحهم ثم دعوة هذا البطل لمجرد الدخول واتمام الاقتحام والقبض على القادة!!. ويبدو هذا الأمر غريبا إذا عرفنا أن سلاح الفرسان فى ذلك الوقت لم يكن يبعد عن إدارة الجيش سوى عرض شارع الخليفة المأمون، وكانت مدرعاته ودباباته تستطيع قصف المبنى من معسكرها وإرسال قوة تحتل مبنى إدارة الجيش وتقبض على القادة!!.
وصحيح أن نفرا من الشرفاء قد نشر الحقائق عن هذا اليوم، لكن هذه الكتب صدرت بعد 1984 حيث كانت الأوهام والأباطيل، قد استقرت فى أذهان أكثر الناس.
وقد نرى مبررا لنشر هذه الأكاذيب فى عهد الرئيسين السابقين لمصر لاعتبارات تتعلق بالحكم وهيبة الحاكم، أو لمحاولة إضفاء نوع من البطولة على هذا النفر أو ذاك تتناسب مع ما تبوأه من مركز، كذلك فإنها تضع الجيش تحت انطباعات تخدم الأوضاع فى تلك الحقبة.
وعندما تولى الرئيس (محمد حسنى مبارك) المسئولية سقط الكثير من هذه الاعتبارات، فما المبرر إذاً لاستمرار تزييف التاريخ بإنكار دور يوسف صديق كعضو فى مجلس قيادة الثورة؟، ومن حقه الدستورى قبل التاريخى أن يكون له تمثال فى المتحف الحربى بالقلعة مع رفاقه!!.
رفضت أسرته استمرار الزيف، وأصرت على تصحيح التاريخ، وقد أشار بعض رموز ثورة يوليو إلى أن الحل يحتاج إلى قرار سياسى وأن طريق القضاء يكاد يكون مسدوداً!!. لكن هامش الحريات الذى أتاحه حكم الرئيس مبارك، والثقة فى عدالة القضاء المصرى دفع الأسرة إلى رفع دعوى قضائية ضد وزيرى الدفاع والثقافة مطالبين بوضع تمثال ليوسف صديق فى المتحف الحربى بالقلعة مع باقى الرفاق، وتصدى لهذه القضية الشائكة مناضل كبير ألف النضال من أجل الحرية والعدالة، وأمضى زهرة الشباب بين السجون والمعتقلات، وأرخ بشعرة وتغنى للحرية، وها هو اليوم يتصدى لتزييف التاريخ وهو الأستاذ (محمود توفيق).
وأزعم أن الموقف قد انقلب إلى ما يشبه الكوميديا السوداء عندما أنكرت هيئة قضايا الحكومة من الأساس كون (يوسف صديق) كان من الضباط الأحرار أو من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبالتالى فليس هناك محل لرفع الدعوى واستندوا فى ذلك إلى عدم وجود وثائق تثبت هذا الأمر؟! وعلت الدهشة وجوه بعض موظفى المحكمة لقيام تلك الأسرة برفع قضية من أجل تمثال!!. ولم يكن نضال المحامى سهلا بطبيعة الحال وهو يواجه جهازا يملك كل الوثائق وينكر الاعتراف بالحق وهو فضيلة، ويصر على أن يصنع للزيف والكذب أقداما!! واستمرت الدعوى ست سنوات ووصلت إلى المحكمة الإدارية العليا التى حسمت الأمر، وقضت بأحقية يوسف صديق بطل ثورة يوليو ومنقذها أن يوضع تمثاله مع الرافق فى المتحف الحربى بالقلعة، وقد لبى السيد وزير الدفاع ونفذ أمر المحكمة!!.
وكاتبة هذا الكتاب السيدة (سهير صديق) هى الأبنة الكبرى للبطل يوسف صديق، فتحت قلبها للقارئ عندما سجلت أحداث تلك القضية بأسلوبها العفوى البسيط، وهى ترى تمثال أبيها فى المتحف، فكان ذلك الحوار الممتع الذى يرمز إلى أن البطل لم يمت ، وأن التاريخ قد صحح الوقائع بحكم القضاء النزيه، ولا يفوتنى أن أنوه بموقف ابن هذا البطل اللواء شرطة (حسين صديق) والذى رفعت القضية بأسمه نيابة عن العائلة، رغم حرج موقفه بحكم موقعه الوظيفى.
وقد أكد هذا الحكم ثلاثة أبعاد، الأول هو بعد تاريخى فقد صحح روايات التاريخ، والثانى هو بعد سياسى عندما استطاع القضاء أن يصحح موقفا سياسيا خاطئا بتجاهل الأبطال لحساب السلطة، وأن من يراهنون على التاريخ لا يخطئون، وأن النضال لا يجب أبداً أن يضع سلاحه، والثالث هو بعد قانونى يحسب لعهد الرئيس مبارك فقد أكد سيادة القانون، وأن العدالة تستطيع أن تصحح التاريخ، ما دام القضاء نزيها، كما أنه أعطى درسا بليغا فى المبارزة القانونية التى خاضها رجل القانون (محمود توفيق) ضد دعاة الزيف ومؤيديه من رجال القانون، تحية من القلب إلى القاضى النزيه، وإلى رافع القضية، وإلى مؤلفة الكتاب، وإلى المدافع عن الحق.
محمد توفيق الأزهرى
2002/5/4

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.